اراء

العقدة اليزنية.. ورحلة البحث عن المنقذ..!

لم يخطئ القاضي عبد الرحمن الأرياني، ثاني رئيس جمهورية بعد ثورة سبتمبر (أيلول) 1962، عندما قال في ستينات القرن الماضي بأن «الحزبية تبدأ بالتأثر وتنتهي بالعمالة»، ذلك لأن التحزب على الطريقة اليمنية لا ينطبق عليه أكثر من توصيف كهذا، فالأحزاب السياسية اليمنية باتجاهاتها المختلفة (قومية – اشتراكية – دينية) بدت خلال العقود الماضية مقيدة بتوجهات وتوجيهات خارجية.
فصنعاء في الأربعينات كانت مشغولة بالقيادي الإخواني الجزائري الفضيل الورتلاني وبأفكار وتوجهات حسن البناء، التي صارت فيما بعد جزءا من ثورة 1948، وبعد ثورة سبتمبر 1962، كانت كل قرارات صنعاء مرتبطة بالقاهرة، لدرجة أن بعض خطابات الرئيس السلال رحمه الله – وفقا لمذكرات القاضي الأرياني – كانت لا تخرج عن النص الذي يقدمه له «أحمد فؤاد أبو العيون» المستشار المصري المرافق حتى رحيل القوات المصرية من اليمن في يونيو (حزيران) 1967، كما كانت كل قرارات عدن بعد رحيل الاحتلال البريطاني 1967 وسيطرة الحزب الاشتراكي على الحكم فيها مرتبطة ارتباطا مباشرا بمقر السفارة السوفياتية في عدن، حتى بيريسترويكا perestroika غورباتشوف في نهاية عقد الثمانينات، فكانت العاصمتان اليمنيتان (صنعاء وعدن) امتدادا متمازجا للعاصمتين المصرية والسوفياتية، ولهذا كان يقال حينها: «عندما تغيم في القاهرة تمطر في صنعاء، وحينما تتساقط الثلوج في موسكو ترفع المظلات في عدن».
وكما كان الحال بالنسبة للأحزاب والقوى الحاكمة كان هو نفسه بالنسبة للأحزاب والقوى السياسية المعارضة، وللزعامات القبلية أيضا، فكانت مرجعيات الجميع تتوزع بين بغداد، والقاهرة، والرياض، ودمشق، وطرابلس الغرب، وموسكو، وبكين، بينما ظهرت في الواقع اليمني اليوم ظواهر وتسميات ومزارات جديدة من أمثال «جمال بن عمر» وسفارات واشنطن، ولندن، وقطر، وطهران، بحيث أصبح اليمن بفضل هؤلاء وبفضل المرتهنين من أصحاب المشاريع الصغيرة ساحة للحرب والدمار، حيث يسفكون بطائراتهم وأسلحتهم وأموالهم دماء اليمنيين، ويتوزعون أشلاءهم باسم غزوات «أنصار الشريعة» و«أنصار الله» وباسم محاربة «الدواعش»، وتنظيم القاعدة في جزيرة العرب… إلى آخر هذه التسميات، في إطار دوامة عنف خاسرة وظالمة، يدفع اليمنيون أغلى ما عندهم ثمنا لها دون مبرر.
المشكلة الأكثر إيلاما أن حكامنا وبعض «العقلاء» من حولهم يستمرئون ما يجري الآن من تدخلات خارجية، ويبررون هذا الارتهان، ويتحدثون عن أن الخارج هو الحل (!!!)، مع أن هذا الخارج قاد ويقود إلى انهيار الدولة، وضياع هيبتها، ومزق جيشها، ويهدد بتفتيت نسيج الوطن الاجتماعي، كما فعل ويفعل في أجزاء كثيرة من وطننا العربي.
فالخارج الذي تدخل في العراق ونصب عام 2003، بول بريمر حاكما عليه، وفي سوريا عبر مبعوثين أمميين كان آخرهم ستيفان دي ميستورا، وفي ليبيا عبر برناردينو ليون، واليمن عبر المبعوثين، لن يترك هذه البلدان إلا وقد دمرها تماما، فهو لا يزال يُعمل فيها الخراب والدمار، وفقط مصر هي الوحيدة التي نفذت بجلدها من المؤامرة وتجاوزت المشكلة، حين رفضت الخارج بكل مبادراته ومشاريعه، وارتضت الحل الوطني بتدخل الجيش، الذي كان محل إجماع وترحيب المصريين، الذين بدأوا يستعيدون به ومن خلاله حياتهم ويستنهضون حيويتهم لبناء مصر.
وكما أن «عقدة الخارج» والتمسك بما يأتي به أصبحت مشكلة عربية في العصر الراهن، فلها عندنا نحن اليمنيين تأصيل تأريخي، إذ إن التدافع نحو «المخلص» الخارجي له قصص وحكايات كثيرة متداولة، بدأت بطلب مسيحيي اليمن مطلع القرن السادس الميلادي من إمبراطور الروم وملك الحبشة التدخل لحمايتهم من الملك ذي نواس الحميري (يهودي الديانة) الذي قضى على المسيحيين في قصة «الأخدود» التاريخية الشهيرة في نجران، والتي ورد ذكرها في القرآن الكريم.
وقد أصبح ميول اليمنيين – قديما وحديثا – للتدخلات الخارجية لحل مشاكلهم، امتدادا لما يعرف في التاريخ اليمني بـ«العقدة اليزنية»، نسبة إلى الملك الحميري سيف بن ذي يزن، الذي لجأ إلى كسرى فارس للمساعدة في التخلص من الاحتلال الحبشي لليمن (525 – 575 م) فأوفد معه جيشا صغيرا تمكن من طرد الأحباش الذين قضوا على حكم الملك ذي نواس، ليتولى بعدها الفرس السيطرة على الحكم، ويصبح اليمن ولاية فارسية بقيادة باذان حتى مجيء الإسلام عام 628م.
وهكذا دواليك، فكلما كانت تحتدم الأحداث في اليمن كان أبناؤه يلجأون إلى استقدام الحل من الخارج، واستمرت الحكاية بعد الإسلام، ففي 283هـ استدعت بعض القبائل اليمنية الإمام الهادي يحيى بن الحسين من جبل الرس بالحجاز ليبدأ حكم الأئمة (الزيديين) في اليمن، ويستمر لأكثر من ألف وثلاثمائة عام.
لم يثبت اليمنيون على حال، فظلوا في رحلة لم تنته بعد، يتنقلون من مكان إلى آخر بحثا عن حلول لمشاكلهم وأزماتهم.. وأملا في «المخلص» أو المنقذ الأجنبي الغائب، لكنهم في الوقت ذاته لم يغفلوا عن البحث في حل وطني – سنناقشه لاحقا – يغني عن الاقتتال ويجنبهم مزالق الاعتماد على الخارج، ما يعني أن التبعية المرفوضة أصلا لم تطغَ كلية على الشعور الوطني، ولن تدعو أحدا إلى تخوين اجتهادات استيراد الحلول من الخارج، فلعلها محاولة جادة للخلاص الوطني، وسيف بن ذي يزن لا يزال في الذاكرة اليمنية رمزا للإباء والوطنية.

* رئيس مركز الوحدة للدراسات الاستراتيجية
وزير ثقافة يمني سابق

زر الذهاب إلى الأعلى