الإعلام الرمضاني بين المثال والواقع
شهر رمضان موسم من أجل المواسم الروحية في الاتجاه إلى الله تعالي، وتجديد الإنابة إليه سبحانه، بما يوجب العمل على الانتفاع واكتساب الحسنات والخبرات الإيمانية ذخيرة للحياة في الدنيا والآخرة، كما أن له خصوصيته ومظاهره المرتبطة به، وله أفراحه الغامرة في أفئدة الناس، وأنواره الصافية التي تشرق في سماء الأمة العربية والإسلامية، ولذلك أيضا تستعد جميع طوائف المهن باستقبال الشهر الفضيل، ومن ضمن هؤلاء يستعد الإعلاميون لاستقبال تلك الأيام المباركة.
ونشير بداية لمفهوم الإعلام بصفة عامة، حيث تعددت تعريفاته، لكن يمكن القول بأنه تلك العملية ذات الوسائل والقنوات المتعددة لنقل الأفكار والمعلومات وتداولها من المرسل إلى المتلقي من أجل تبليغ رسالة محددة والتأثير في سلوكه وأفكاره.
أما عن الإعلام الرمضاني فهو موضوع متشعب النواحي، عديد التأثيرات، مهما للغاية، فإذا كان للإعلام عامة أثره الهائل في حياة الأفراد والمجتمعات، حتى قيل إن الإنسان ابن إعلامه، فإن له أيضا أثره المؤكد في شهر رمضان، وهو موضوع يتسع باتساع دائرة الإعلام نفسها، ويكفي أن نعلن قول د. محمد عبدالقادر حاتم: “إن الوسائل الرئيسة للإعلام تمتد لتشمل العديد من الوسائل المقروءة كالصحافة ووكالات الأنباء والمطبوعات والكتب والنشرات والملصقات، ووسائل سمعية تتمثل في الإذاعة والخطابة والندوات والمناقشات، ووسائل بصرية كالفنون، ووسائل سمعية بصرية كالقنوات التليفزيونية والفضائية والمسرح والسينما والإنترنت ووسائل حسية كالمقابلة والمحادثة”.
وبذلك تتعدد قضايا الإعلام الرمضاني لدرجة يصعب تناولها جميعها في هذه السطور، لذلك أكتفي بالإشارة في إيجاز إلى العديد من هذه القضايا الأساسية في علاقة شهر رمضان بالإعلام.
تتعدد أهداف الإعلام الرمضاني في ضوء الرسالة الإعلامية الصحيحة والتي تركز بصفة أساسية على الهدف الأسمى من الشهر الفضيل، بحيث تدعو لإعلاء الروح والتجرد من كثافة الحياة المادية، ونيل التقوى وطلب المغفرة والرحمة من رب العالمين، فرمضان سوق قام ثم انفض، ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر، والصائم يحتاج في حياته إلى الزاد الإيماني الذي يعينه ويقوي روحه في مواجهة ماديات الحياة، ورمضان فرصة ثمينة لاكتساب هذا الزاد فهو سوق الطاعات وذخيرة السنوات، ولا يصح بحال من الأحوال أن تناقض الرسالة الإعلامية هذا الهدف الجليل، وتعمل على تضيع معالمه، وبذلك يحتل الهدف الإيماني للإعلام الرمضاني المكانة الأولي ولأهميته في تلك الأيام المباركة يجب أن تواكب الوسائل الإعلامية في مضمونها وأهدافها روح هذا الشهر الكريم فتدفع فيه الأفراد والمجتمعات إلى التزكية وتنقية الأجواء وبث الروح الإيماني في الأمة العربية.
فتبدأ الرسالة الإعلامية الرمضانية بالحض على الاستعداد الجيد لاستقبال الشهر الفضيل، والتجهيز له بالتدريب المتدرج على القيام وتلاوة القرآن وصيام بعض أيام شهر شعبان، وتفريغ النفس من شواغلها، وإنجاز غالب الأعمال المطلوبة لشهر رمضان وعيد الفطر، حتى لا ينشغل الوقت في الشهر الكريم – وهي أوقات غالية – وإعداد خطة عمل طموحة، مع الاستعداد الدءوب لتحقيقها، ثم التأكيد على متابعة الرسالة الإعلامية لهذه الخطة أثناء الشهر الكريم نفسه، من توضيح لفضائل تلك الأعمال الصالحة من دعاء وقراءة نافعة وتلاوة وصلاة التراويح وصلاة التهجد، وصلة الأرحام والصدقات وحفظ بعض آيات القرآن الكريم، وحفظ الجوارح من المعاصي، والدعاء واللجوء الصادق إلى الله تعالي لكشف الوباء والكربات، ثم التصاعد التدريجي حتى يصل الصائم لذروة أدائه الإيماني والعبادي في العشر الأواخر من رمضان بالتفرغ للعبادة والإخلاص فيها.
وتستمر الرسالة الإعلامية الهادفة طوال الشهر في دعم هذا الاتجاه، وتأكيده بالتنبيه على تدارك ما فات من الشهر الكريم، بالاجتهاد في الأيام المقبلة وسرعة إجتنائها، وتقديم مواد تثقيفية جذابة ومشجعة ومشعة بالمعرفة، وتراجم للصالحين والإشادة بجوانب عديدة من عظمة الحضارة العربية الفينانة.
وكما تعمل الرسالة الإعلامية على تأكيد الهدف الإيماني الأسمى في رمضان، فإنها أيضا تنفع المجتمع جميعه، بتصحيح اتجاه الشعب وتصويب سلوكياته نحو وجهته السليمة لتتفق مع أهداف الشهر الكريم، بما يحدث الأثر المطلوب من رمضان، فينشأ في مدرسة رمضان أفراد منتجين نافعين لمجتمعاتهم، وتؤسس قيم جمعية تصنع الحضارة وتسعي إلى البناء والإجادة والتقدم وتصوغ الحياة صوغا جديدا.
وحيث إن شهر رمضان مخصوص بكثرة الأعمال الإيمانية، ويحتاج إلي همة عالية واستغلال نشط لكل دقيقة بل ولكل لحظة فيه، كان الفاروق عمر – رضي الله عنه – يقول: “لا أرين أحدكم فارغا، إما في عمل الدنيا، وإما في عمل الآخرة”. ويقول ابن عقيل النحوي: “إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني من مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة أعملت فكري في حالة راحتي وأنا مستطرح”.
والحرص على الوقت في رمضان أهم وأولى، وقد كان الصحابة الكرام – رضي الله عنهم – يجتهدون أشد الاجتهاد في رمضان، فكانوا يختمون القرآن الكريم في كل ثلاث، وبعضهم في كل سبع وبعضهم في كل عشر، وكان الإمام مالك إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وذلك جميعه حتى تصفو النفوس من أدرانها، وتلجأ إلى ربها وتسترد كثيرا من عافيتها الروحية، وتعود أكثر قوة وعزيمة وأمل في الحياة.
ويجب أن تعمل الرسالة الإعلامية على بث هذه الروح وتأكيدها والدفع إليها بتقديم مواد إيمانية وتكثيفها، ومعاونة الصائمين على تنظيم أوقاتهم، والإنتفاع بها وعدم شغلها وتضييعها بالمواد الإذاعية والتليفزيونية والصحافية غير الهادفة.
وبطبيعة الحال قد لا يتاح للصائم الوقت الكافي لمتابعة كافة المواد الإعلامية والإعلانية المتاحة له، والتي تزدحم أمامه في وسائل الإعلام في كثافة، وحينها تتجه إرادة الصائم لإنتقاء مادة إعلامية مناسبة تشحذ همته وتتسم بسمات مشوقة وجذابة، وأن يلتمس بها الصائم أيضا الترويح المناسب، كبرامج المسابقات الهادفة، والحوارات البناءة في شتي المجالات أو الدراما الجيدة أو مجموعة البرامج المرتبطة بشهر رمضان وروحانياته مثل انتصارات وأحداث رمضان، ورمضان في حياة الرسول الكريم – صلي الله عليه وسلم – والصحابة والتابعين، أو دراسة آيات كريمات وأحاديث شريفة أو سيرة أعلام حضارية أثرت الإنسانية … إلى آخره.
إذا كانت تلك هي بعض أهداف الإعلام الرمضاني الصحيح، فكيف تبدو الحالة الواقعية مقارنة بهذه الحالة المثالية؟ إن الإجابة عن مثل هذا السؤال تثير الأسى لبعد المسافة الفاصلة بين الوضع النموذجي والوضع القائم فعليا، لذا اكتفيت بالإشارة إلى نصوص معبرة.
في كلمة موجزة للكاتب الصحفي جمال بدوي يصف فيها الحال الواقعى مع شهر الصيام: “رمضان شهر عبادة وزهد واعتكاف، ولكننا حولناه إلي شهر للتخمة والمتعة والسهر والأضواء والياميش والفوازير، انظر إلى أنباء السلع الغذائية التي تتصدر الصفحات الأولى من الصحف تبشر الصائمين بمضاعفة كميات الطعام حتى يطمئنوا على سلامة بطونهم، مع أن المفترض أن يستهلك الصائم من الطعام أقل مما يستهلك في الشهور الأخرى، انظر إلى المنافسة المحمومة بين الإذاعة والتليفزيون والمسارح ودور اللهو لاجتذاب الصائمين لقضاء ليالي رمضان في مرح ولهو بدلا من أن يقضوا هذه الليالي في عبادة وتهجد وابتهال إلى المولي جل وعلا، وهكذا انقلب الحال .. وبات رمضان متعة للبطون وتزجية للفراغ وحضا على الكسل بدلا من أن يكون متعة للعقل .. وفرصة للتأمل .. ونزهة للأرواح”.
وعلى نفس المنوال يذكر الكاتب الصحفي عباس الطرابيلي أحوال الصائم في رمضان بين ثلاث موائد فيقول: “لم نعد – للآسف – نرى في رمضان شهرا للعبادة الخالصة للواحد القهار كما كان السلف وعبادة وخشوعا من موعد الإفطار إلى ما بعد صلاة الفجر، ولكننا حولناه إلى شهر لأطايب الطعام والشراب وبحث عن المسرات والشهوات، وأصبح الصائم بمجرد آذان المغرب أو ضرب مدفع الإفطار مشدودا إلى ثلاث موائد عامرة بالمشهيات، مائدة طعام عامرة وتضم من المهلكات أكثر من أن تضم احتياجاته فعلا، وما يتناوله قبل الأكل وبعده والمقدمات والمقبلات والمشهيات ثم الدسم المحمر المشمر المقمر المسبك المشوي الملبس ثم مائدة أخري ينتقل إليها الصائم – الفاطر – من الحلوى والتسالي والمشروبات، وتمتد تلك المائدة حتى تلتحم بمائدة السحور، ثم مائدة ثانية عبارة عن صراع إذاعي بين مختلف الإذاعات المحلية والمركزية والإقليمية والنوعية لكنها تقدم فقط الخفيف من المواد، والمائدة الثالثة وهي الأساس صراع بين القنوات المحلية والفضائية، وبين مائدة الطعام ومائدة الإذاعات ومائدة التليفزيون ضاع المعنى الحقيقي والهدف الأسمى للصيام شهر العبادة والتقرب إلى الله”.
وهكذا نجد أن الواقع الإعلامي لا يؤدي دوره المنشود في إرشاد الناس لفضائل الشهر الكريم، وذلك في بعض الساحة العربية الإعلامية المتاحة، سواء بإغراق المشاهد بالبرامج والمسلسلات على مدار 24 ساعة، وكلها في نطاق الترفية الذي يخرج – إلا قليلا – إلى نطاق اللهو والسطحية والسذاجة، وأحيانا إلى نطاق التحلل والميوعة بما يتناقض مع أهداف الشهر القويم أصلا، ويضاد تماما روحه الكريم.
ورغم هذا الكم المهول من البرامج والدراما، فهناك ملاحظة مؤكدة أن مساحة المواد والمسلسلات الجيدة والهادفة ثقافيا واجتماعيا محدودة وضائعة في الخريطة الإعلامية الترفيهية فى الأساس.
ومن الأهمية بمكان أن تكون المادة الإعلامية والإعلانية الرمضانية مادة مشوقة وجذابة وتتسم بروحانية عالية حتى تحدث التأثير والاستجابة المطلوبة، وبما يجذب المتلقي كي يتفاعل معها ليصبح إيجابيا نحوها.
خالد جودة أحمد