الحياةاهم الاخبارحوار الحياة

الگاتب والباحث عبد الحفيظ العمري : نحن محسوبون من دول “ الأطراف” البعيدة عن عواصم الثقافة

حاوره / موسى العيزقي

بداية نرحب بك أستاذ عبد الحفيظ العمري ضيفاً عزيزاً على صفحات “ فكر “.. وسؤالنا الأول حول تقييمكم لواقع الثقافة في الوطن العربي بشكل عام، وفي اليمن على وجه الخصوص؟
الشكر لكم أنتم، الواقع الثقافي العربي لا يكاد ينفصل عن الواقع السياسي، لأن الواقع السياسي الذي يؤثر في كل مجالات الحياة ومن بينها طبعاً الثقافية، صحيح أن هناك نمو ثقافي يتفاوت من دولة لأخرى لكنه في نهاية المطاف لا يغادر البوتقة العربية المصبوغة بسمة التخلف منذ زمن طويل ، وإن كان المغاربة أحسن حالاً من المشارقة ولو راجعت مؤلفات هؤلاء المغاربة – أمثال الدكتور محمد عابد الجابري و د. عبدالله العروي و د. عبدالإله بلقزيز وأضرابهم – ستجد الطرح متميزاً عن طرحنا المشرقي ولو قليلاً، طبعاً هذا لا يمنع نبوغ بعض المشارقة ولعل د. عبدالوهاب المسيري في مقدمة هذا الرعيل.
أما بالنسبة لوضعنا اليمني، فنحن محسوبون من دول “ الأطراف” البعيدة عن عواصم الثقافة وإن كانت لنا مشاركة فهي على استحياء للأسف، لكن في الداخل نجد حراك ثقافي نشط بين طبقة الشباب، أتمنى أن ينضج ليكون نواة المستقبل القريب…
.. من خلال ما حدث .. هل تتوقعون أن تشهد الساحة العربية ثورات جديدة في الفكر والثقافة.. في ظل الثورات السياسية الحالية؟
دعني أولاً أقف عند مسمى “ثورات”، فالثورة هي تغيير جذري كامل يشمل كل نواحي الحياة، طبعاً من ضمنها السياسي والثقافي، فهل حدث هذا في عالمنا العربي؟
لكن الثورات من منحى “النقلة” من وضع لآخر تشبه ما ذهب إليه فيلسوف العلم توماس كون في كتابه “بنية الثورات العلمية”؛ حيث نظر أن عدم خضوع الظواهر العلمية للنموذج الإرشادي السائد – الذي سماه البراديم – يؤدي إلى تكسّر هذا النموذج والتحول إلى نموذج إرشادي جديد يحوي النموذج القديم و تخضع الظواهر العلمية له، هذه النقلة يسميها “كون” ثورة علمية ، فالثورات العلمية عنده ليست نتيجة تراكمات بل نقلات، فهل يمكن تشبيه هذا في الواقع الاجتماعي؟ وأن النماذج أو الأنظمة القديمة لم تعد تستوعب التغيرات الجديدة الحاصلة للمجتمع ،فاحتاج الأمر إلى نقلة أو لنقل “ثورة”!
أما حدوث ثورات جديدة في الفكر والثقافة مصاحبة للثورات السياسية، فبعيداً عن اختلافنا هل ما حدث هو ثورة أم لا – أقول أن التغيير السياسي لا يتساوق معه تغيير ثقافي أو فكري، لأن التغيير السياسي سريع ويمكن أن يحدث في أيام معدودة ،لكن الثقافي يحتاج أمداً طويلاً، وبرأيي لم تحدث هذه “التغيرات” المرجوة في الثقافة والفكر.
.. أين موقع المثقف العربي اليوم مما يجري على الساحة؟ وما الدور الذي يمكن أن يقوم به للمساهمة في نهضة الأمة؟
المثقف الحقيقي هو المرتكز الذي لابد أن لا تمر به هذه الأحداث مرور الكرام، بل هو صوت الأمة الذي من خلاله تسمع الأمة نفسها وترى من خلال إبداعه مستقبلها هذا إن قام بواجبه المناط به وهو التنوير ولا شيء غير التنوير، بدلاً من التزوير الذي يمارسه أشباه المثقفين المرتدين لبوس الثقافة زوراً وباطلاً، لذا فدور المثقف الحقيقي أصبح مضاعفاً في ظل التحديات التي تواجهها الأمة في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر بها، وهذا الدور يتلخص في إعادة ثقة الأمة بنفسها والتدليل على أماكن الضعف في الأمة لتقويتها وأماكن القوة لتعزيزها بلا مبالغة ولا مغالطة بل بمنهج علمي رصين..
.. كثيراً ما نسمع عن مفهوم ( صراع الحضارات).. باعتقادك كيف يمكننا التعاطي مع هذا الموضوع بالتحديد؟ وما الحوار المطلوب للتقارب بين الأمم؟
لدينا مفهومان هما (صراع الحضارات) و(حوار الحضارات)، ولعل صراع الحضارات جاء من عنوان كتاب للمفكر الأمريكي صامويل هنتنجتون الذي نشر في عام 1996م بعد نهاية الحرب الباردة وأن الهويات الممثلة للحضارات السائدة- الأمريكية والإسلامية والصينية و…الخ- ستدخل في صراع أو صدام وظهور ما يسمى بالنظام العالمي ، في المقابل هناك (حوار الحضارات) الذي نادى به الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي على أساس أن الحضارات قائمة على أسس إنسانية واحدة وأقيمت العديد من المنتديات لهذه الحوارات ، لكن الواقع أنه لا حوار بين هذه الحضارات لأسباب عدة منها أن هذا الحوار لم يأتِ من منطلق المشترك الإنساني بل من منطلق الأعلى والأدنى، وأهل الشمال – شمال الكرة وجنوبها و عدم احترام خصوصية الآخر في معتقداته وثقافته بل محاولة لجر الجميع إلى صيغة واحدة في زمان العولمة ، فالأمر ليس حوار حضارات والنزعة المركزية الأوربية الطاغية تغلق الباب أما أي حوار “حضاري” ونحن اقرب للصراع إذا لم نكن في أتونه.
.. وماذا عن التباين الفكري بين الجماعات والمذاهب الإسلامية.. الذي وصل في الآونة الأخيرة إلى حد المواجهة المباشرة؟
الاختلاف سنة كونية لا جدال في ذلك، لكن الاختلاف المحمود الذي يثري المشهد من كل التشكيلات أما الاختلاف الذي يؤدي إلى خلاف وتناحر يصل لحد الاقتتال فهذا يعبر مسمى الاختلاف ،وإنما هو أحقاد ارتدت لبوس الدين أو المذهبية، وكأن التاريخ يعيد نفسه ، فها نحن اليوم نرى خوارج الماضي خرجوا من كهف التاريخ بمسميات جديدة!
.. أي تباين فكري نتحدث عنه؟ الأمر عبر هذا المسمى إلى تمزق فكري اجتاز الثوابت وهدد بانهيارها، وفوضى ما يجري تفصح عن نفسها يوماً بعد يوم ، فهل نسمي ما يجري في سوريا مثلاً اختلاف فكري أو تباين فكري؟
أبداً بل أحقاد مجترة خرجت من كهوفها المختفية بها منذ قرون، وبدأنا نسمع صيحات انتصار من أجل رموز أو ضد رموز تاريخية مر على رحيلها قرون عديدة!
..ما الدور الذي يمكن أن يلعبه الفكر على الساحة اليمنية في ظل الاوضاع الراهنة؟
الحوار أمر إيجابي مهما كانت المعوقات، ولأن نتحاور على الطاولة بالألسن والأقلام وبالصياح – إن لزم الأمر- خير من أن نتحاور خلف المتارس بالأسلحة!
الفكر لن يلعب دوره من الآن ، بل قد لعب سلفاً، فالمتحاورون كلهم دخلوا الحوار محملين بأفكارهم المختلفة والمتباينة عن أفكار خصومهم السياسيين وكذلك الفرق الأخرى ، وكل واحد يستعمل ما لديه من “ثقل” في الساحة اليمنية ليمرر مشروعه السياسي أو الفكري – لأن السياسي في النهاية منبثق من الفكري- وما يجري في جلسات الحوار ما هو إلا صراع أفكار بين الأطراف المتكتلة…
.. لكن منْ سيملي ويفرض نفسه على الكل؟
أعتقد أن لا أحداً بعينه، وإنما تكتلات لها ثقلها على الساحة اليمنية، والذي أرجوه أن يكوّن الجميع فكراً من هذه الأفكار المتباينة تبني اليمن أو على الأقل تريد أن تبنياليمن…
.. هناك حديث عن الصحوة الإسلامية، وهناك حديث أخر عن عودة الخلافة؟ فيما البعض يتحدث عن مشروع النهضة الإسلامية.. السؤال: هل نحن نمر فعلاً في مرحلة صحوة ونهضة إسلامية؟
أضم رأيي لرأي الدكتور محمد عابد الجابري رحمه الله أن كلمة “الصحوة “ جاء كترجمة لما نشرته الصحف الغربية عن ما جرى في العالم العربي في أواخر السبعينات، وأن الصحوة انفعال لا فعل والعرب مطالبون بالفعل أكثر من مجرد الانفعال، وأن الأفضل هو “التجديد” بدلاً من الصحوة،
أما النهضة فهي المشروع الذي سيكون ثمرة للتجديد ضمن الحياة العربية، ولماذا إسلامية؟ بل ماذا يقصدون بها؟ إذا كانت دينية فتحتاج مراجعة أما حضارية فنعم.. حكاية “الخلافة” الإسلامية، أنا اعتقد أن المناداة بها بالصيغة القديمة يعتبر وهماً!
والأحرى المناداة بإقامة حضارة عربية أو نواة لذلك بدلاً من “خلافة” لأن الحضارة تشمل الجميع… نحن اليوم نحتاج لمشروع حضاري شامل لهذه الأمة من خلال تجديد ما لديها بعيداً عن المسميات الشائكة بل السلسة التي تجمع الناس كل الناس ولا تفرقهم …
.. وما التحديات الماثلة أمام تحقيق ذلك؟
التحديات كثيرة، لعل عدم أتفاقنا على الاسم الذي نطلقه عليها – مجرد الاسم – يوضح لك مدى التخبط الذي نسير فيه!
دعونا نتفق على الانتصار لهوية الأمة وثوابتها الدينية والوطنية والاتفاق على “فكر” جامع يشمل كل الناس – ضمن تباينهم المقبول – هذا الاتفاق ستهون أمامه كل العقبات الأخرى أياً كانت ، سواءً كانت داخلية أم خارجية…
.. ولو فصلنا في هذه العقبات سنحتاج لوقت طويل، لكن العقبة الكبرى من وجهة نظري هي عدم بلورة رؤية واضحة لنا – نحن العرب – ماذا نريد؟ وماذا نحتاج؟
.. ولماذا يتخوف الكثير من حكم الإسلاميين والحديث عن عودة الخلافة؟ كيف تقرؤون فوز الجماعات الإسلامية في الانتخابات بدول الربيع العربي؟
يتخوف الكثيرون من ذلك بسبب ما رسخه إعلام الأنظمة السابقة من صورة سيئة عن الإسلاميين، وأكّدت تلك الصورة ممارسات “بعض” الإسلاميين السيئة في الحكم ولعل النموذج السوداني ماثل للعيان!
ولا ننسى أن مسمى الإسلاميين “فضفاض” فمنْ نقصد بالإسلاميين ؟ فالساحة تمتلئ بمنْ يطلقون على أنفسهم أو يُطلق عليهم من الطرف الآخر مسمى “الإسلاميين”، هل نقصد الإخوان المسلمين أو السلفيين أو الحوثيين أو القاعدة …الخ أليسوا كل هؤلاء إسلاميين؟
لكني أظنهم يتفقون على الإخوان المسلمين في هذه التسمية..
فوزهم في الانتخابات كان متوقعاً – أقصد الإخوان المسلمين – لأنهم أكثر الموجودين تنظيماً وتكتيكاً.
.. وماذا عن أفاق التعاطي الغربي والأمريكي مع الإسلاميين في المنطقة؟
الغرب بطبيعته براجماتي، لا يهمه منْ يفوز، المهم منْ سيرعى مصالحه سواء كان إسلامي أم لبرالي!، توضح ذلك مقولة د عبدالإله بلقزيز: “المصلحة قيمة القيم في أخلاق الغرب الحديث وديانته الرأسمالية”
ولعل تصريحات المسؤولين الأمريكيين أثناء ثورة 25 يناير في مصر كانت واضحة حول قبولهم للإسلاميين حال فوزهم بالحكم.
.. كيف تقرأ مستقبل الحركات الإسلامية في اليمن– في ظل التباين في المواقف والرؤى ووجود ما بات يعرف بالتيار  المتشدد، والتيار  المعتدل؟ 
المتغيرات التي اجتاحت المنطقة كثيرة، وقد بدأت هذه التغيرات منذ سقوط ما كان يسمى الاتحاد السوفيتي، ونهاية الحرب الباردة، وبعدها أحداث الخليج التي تمخضت في الأخير عن الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م، والحرب على الإرهاب، وأخيراً أحداث الربيع العربي، كل هذه الأحداث عاصرتها أحزابنا السياسية المختلفة – ومنها طبعاً الحركة الإسلامية- ورأينا أداء الحركة التي تعاملت مع تلك الأحداث بمرونة مشوبة بالبرجماتية، لعل هذا ما أفرز ما تسميه أنت التيار الإخواني المتشدد والمعتدل، الذي أفضل تسميته الحرس القديم والجيل الجديد وهذه التسمية ليس لهم وحدهم بل لكل حزب وتنظيم.
الذي أراه أن إخوان اليمن أكثر احتكاكاً بالسياسة ومارسوها أكثر من غيرهم..
أما الحركة السلفية فهم أنواع قد تشتت بعد وفاة الشيخ مقبل الوادعي – رحمه الله، وهناك حرس قديم وجيل جديد، لعل هذا الأخير أكثر انفتاحاً على العصر من سلفه ويدل على ذلك تكوينه حزب سياسي – وهو حزب الرشاد – والمشاركة في الحياة السياسية بقوة…
.. شاهدنا المجازر البشعة التي أرتكبها تنظيم القاعدة وداعش ما تعليقك.. وهل هذه التصرفات البشعة تمت إلى الدين الحنيف بأي صلة؟
لا يختلف اثنان أن ما جرى هناك لا يمت بصلة إلى الدين الإسلامي ولا إلى أي دين سماوي آخر، أي دين يبيح قتل الناس بهذه الصورة.
أين قوله تعالى:” مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا”
وقول النبي الكريم: المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، لا أقول إلا لاحول ولا قوة إلا بالله.
.. الفكر الأعمى الذي ينتهجه تنظيم القاعدة الإرهابي ويضرب به مئات المدنيين المسلمين برأيك من المسؤول عنه؟
الجهات المسؤولة عنه كثيرة، أولها هي التربية الدينية التي تغذي ناشئتنا على مفهوم مغلوط للجهاد ومعناه المكبوس في القتال..
الظروف الاجتماعية التي تعيشها مجتمعاتنا العربية والمسلمة خصوصاً من تعليم منخور واقتصاد عالة على المعونات وإدارة فاسدة، كل هذه العوامل تجعل من بيئتنا مستنقع خصب للإرهاب!
ولا أعفى الغرب من المسؤولية في صناعة هذا “البعبع” المسمى القاعدة، الذي وفّر لهم غطاء للتدخل في كل شؤوننا الصغيرة والكبيرة، وبالله عليك ما تعريف الإرهاب الذي ينادون بمحاربته؟
.. الكلمة مطاطية يُطلقونها – ونردد بعدهم ببغائية مفرطة – على منْ يريدون هم؟!
وإذا كان إرهاب تنظيم يضر الكل – ونحن أول المتضررين طبعاً- فما بالك بإرهاب دولة!
.. ما يمارسه الكيان الصهيوني قل لي ماذا نسميه؟ أو ماذا يسمونه هم؟! وكيف يمكن التعامل معه؟ والتخلص منه؟
أصبح الأمر واقعاً معاشاً – ولو كان كابوساً – ودفن الرؤوس في الرمل والقول بعدم وجود إرهاب لن يحل المشكلة، الأصل تجفيف المنابع، تعليم ديني حقيقي قائم على مفاهيم غير مغلوطة للجهاد، الجهاد كما نادى به الإسلام وجعله رهبانية هذه الأمة، وليس جهاد هذه الأيام!
الغرب إن كان صادقاً فليساعدنا في التنمية الحقيقية – وليس المعونات والقروض- أقصد التنمية التي تجعل من بلداننا ذات اقتصاد ناهض بذاته وانتشار للتعليم الذي يقضي على فكر الخرافة…
الغرب يجب أن يتعامل معنا كدول مستقلة وليس كمحميات ضمن وصايته، هنا فقط لن يكون للإرهاب موضع قدم في بلادنا…
الأمر ليس هيناً ويحتاج لسنوات، لأن هذا الإرهاب لم يظهر بين يوم وليلة بل غذته أفكار أخذت سنوات حتى أصبح غولاً ينهش بلداننا، والمعركة ليست عسكرية بل فكرية، فالفكر يجابه الفكر…
.. في أمريكا والغرب نجد أن للمفكرين تأثير كبير على سياسات بلدانهم.. بينما الأمر يختلف في وطننا العربي ..حيث يذوب الفكر في الفعل السياسي ويتحول المفكر إلى أداة بيد الحاكم يتصرف به كيفما يشاء.. السؤال: لماذا لا يؤثر الفكر على السياسة في الوطن العربي؟
تأثير المفكرين في سياسة بلدانهم يختلف من دولة لأخرى بحسب مساحة الحرية المتاحة لهؤلاء المفكرين للتأثير في ذلك وكذلك لمدى الفكر الذي يحمله المفكرون..
.. وليس كل المفكرين مؤثرون، وقل لي ما مدى أثر ناعوم تشومسكي المفكر الأمريكي في السياسة الأمريكية وهو مفكر معارض وناقد لتلك السياسة؟
المشكلة ليست في مدى التأثير أو وجوده من عدمه إنما الجزء الآخر الذي جاء في سؤالك وهو أن يتحول المفكر إلى أداة بيد الحاكم يتصرف به كيفما يشاء، هنا تكمن المشكلة التي تفرغ الفكر والمفكر من أثره وينقلب فكره إلى بوق للسلطان، بحيث يستغل المفكر حسن منطقه ونفوذه الفكري – إن صح التعبير- في التبرير لكل أخطأ الساسة تجاه شعوبهم باسم الفكر!
الفكر المؤثر الحقيقي – ولو نسبياً- هو الفكر الخارج عن عباءة الوظيفة والعمل وبعيد عن قيود البيروقراطية الحكومية، طبعاً ليس شرطاً أن يكون الفكر المعارض، بل الناقد لكل خطيئة والمبارك لكل حسنة يقدمها النظام السياسي..
.. هناك منْ يربط بين ما شهدته بعض الدول العربية من ثورات شعبية، وبين ما يسمى بمشروع ( الشرق الأوسط الجديد) الذي تبنته الولاياتالمتحدة بدءً من العراق.. هل ما حدث مؤخراً من حراك شعبي يعد جزء من ذلك المشروع؟
لا يمكن أن نربط البدايات بل المآلات، بمعنى الحراك الذي حدث كان شعبياً لا شبهة فيه ، سواء قام به الشباب أو الأحزاب، لكن ماذا بعد؟
الذي أعتقده أن الغرب دخل على الخط وركب الموجة – كما يقولون – و طوّع ما حدث ضمن مصالحه المستقبلية سواء مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، وهذا أمر لا أستغربه من دول في الغرب تخطط لمائة سنة مستقبلية، ولا ريب أن ما حدث -إن لم يكن في حساباتهم كما يقولون – فإنهم يستطيعون وبسهولة أن يواكبوا الأحداث ويطوّعون ماجري وما سيجري ضمن خططهم المستقبلية، فهذه الدول الكبرى أو الغربية منها ليسوا هواة بل محترفون في الاستجابة لكل حدث وطارئ يجري على مستوى العالم خصوصاً إذا كان يمس مصالحهم من قريب أو بعيد…
أما أن ما يسمى بالربيع العربي من صناعتهم، فاستبعده كثيراً لأن مصالحهم كانت مع الأنظمة التي سقطت، فلمَ يستبدلونها بأخرى؟
.. برأيك ما سبب تراجع شعبية القوى الليبرالية والعلمانية وتمدد نشاط القوى الإسلامية؟
القوى الليبرالية والعلمانية لها أفكارها التي نأخذ منها ونرد، لكن النموذج الأعلى لها هو الآخر أقصد الغرب أو الشرق على حد سواء، بمعنى ليس من بيئتنا، طبعاً لا أريد أن أقول أن هذه الأفكار دخيلة علينا تماماً لكن نماذجها هناك في أوربا، لذا فشعوبنا العربية البسيطة لمّا تتعامل مع مفكرين يحملون هذه الأفكار تحس التعالي لديهم وأن مصطلحاتهم غريبة عنهم ، في حين أن الخطاب الإسلامي أو لنقل الديني عامة بسيط وواضح ومن طينة هذه الأرض – آيات وأحاديث ووعظ وخطب وغيره – ولا تنسَ أن مفاهيم كثيرة تمت ترجمتها أثناء اتصالنا الحديث بالمستعمر بداية مع الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م مثل العلمانية ومن بعدها تلت تلك المفاهيم وكان الترجمة لهذه المفاهيم تتسم بطابع المترجم نفسه، تعجبه ويروّج لها يلبسها أحسن ثياب، لا تعجبه يعطيها أسوأ الصفات من جانبي لا مشكلة مع أي أفكار أو مصطلحات لأنه لن يبقى إلا ما ينفع الناس وما يناسب مع هويتهم، وأذكر مقولة للدكتور محمد عابد الجابري- المفكر المغربي المعروف رحمه الله – حيث قال: “العلمانية منْ يحتاجها، العرب اليوم يحتاجون الديمقراطية والعقلانية أكثر من العلمانية.”
.. كيف تقيم الخطاب الديني المعاصر؟
الخطاب الديني المعاصر متنوع لتنوع الجماعات المتبنية له أو الصادر عنها، فلدينا خطاب سلفي وإخواني وحوثي وتبليغي وغيره، وهؤلاء كلهم أصحاب خطاب ديني!
لذا سأطرح وجهة نظري عامة – دون تخصيص لفريق، أقول الخطاب الديني لازال يراوح مكانه في الحديث في أشياء محددة منها الحديث المفرط عن الآخرة ونعيمها والحور العين ووو الخ مما نعرفه جميعاً…
.. طيب، وماذا عن الدنيا؟
نؤمن بالآخرة جميعنا، بل أن أحد الثوابت الإيمان اليوم الآخر، لكن منْ سيعمر الدنيا إذا كانت عقولنا متعلقة بالآخرة فقط؟
ومنها أيضاً السياسة والحكم، على اعتبار أن الإسلام دين ودولة، وهذه مقولة ظهرت في ثلاثينات القرن العشرين كرد فعل للاستعمار الذي كان يحتل أرضنا وأدعى أن سبب تخلفنا هو الدين الإسلامي – مثل المعتمد البريطاني الذي كان في مصر حتى عام 1908م اللورد كرمر وغيره – وقد ناقش الدكتور محمد عابد الجابري هذه القضية بالتفصيل في كتابة “ الدين والدولة وتطبيق الشريعة “ الذي أتمنى أن يقرأه الجميع ففيه لمحات مفيدة جداً، ومنها موضوع تطبيق الشريعة الذي ينادي به الجميع، دون أن يقدم هذا الجميع “مشروع عمل عن كيفية هذا التطبيق”، وكأن المجتمعات العربية دخلت الإسلام قبل ثلاثة أيام!
الخلاصة على الخطاب الديني أن يرتقي لطموح أبناء العصر، وأن يطور من أدواته الملائمة للقرن الحادي والعشرين، فمنبر القرون الخوالي لم يعد مؤثراً في الناس وأي خطاب ديني لا يراعي العصر الحالي فلا يلوم المخاطبين إذا لم يتأثروا به.

زر الذهاب إلى الأعلى